مفهوم الاعتدال فى التدين ونطاقه

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم الدراسات الأسلامية کلية التربية ـ ککلة ـ جامعة الجبل العربى ـ ليبيا

المستخلص

اقتضت مشيئة الله تعالى أن يخلق الإنسان ويستخلفه فى الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً "(1) وجعل منه شعوبا وقبائل لتتعارف فيما بينها وتتمازج وتتبادل المصالح والمنافع "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"(2) وکل ذلک ضمانا لاستمرار حياة الإنسان فى الأرض إلى أن يرثها الله ومن عليها، وتحقيقا لوظائفه لوظائفه فيها، حتى يحقق المقصد العام والأسمى لخلقهألا وهو عبادة الله تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ"(3).
ولم يترک الحق سبحانه وتعالى للإنسان مهمة تحديد کيفية العبادة، ووضع أسسها وقواعدها، بل تکفل عز وجل بإرشاده إلى ذلک،حتى تتم العبادة کماأرادها الله الخالق الکامل، لا کما أرادها العبد المخلوق الضعيف، فسن الشرائع وأنزل الکتب وأرسل الرسل، فغدا الإنسان بما وهبه الله من عقل،وما زوده به من أحکام، قادرا على تحقيق عبادة الله تعالى فى الأرض فى سعة دون مشقة ولا حرج.
ولذلک کان من أسس الشريعة الإسلامية، التى ختم الله بها شرائعه، اليسر ورفع الحرج، فقد اتخذ القرآن الکريم فى دعوته للناس أسلوب اليسر وعدم الحرج، ودلت نصوصه على ذلک سواء فى قواعده وأصوله أو فى جزئياته وفروعه، وقد عده الفقهاء أصلا من الأصول التى اعتبرها الشارع، واستنبطوا به أحکاما کثيرة، وهو من الأصول المقطوع بها(4). قال تعالى: " يُرِيدُ اللَّهُ بِکُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِکُمْ الْعُسْرَ" (5). وقال تعالى: " وَمَا جَعَلَ عَلَيْکُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"(6).
ومما لا شک فيه أن بناء أحکام الشريعة الإسلامية على أساس اليسر ورفع الحرج دليل على أن هذه الشريعة مبنية على الاعتدال والوسيطة بعيدا عن التشدد والغلو. وهذا المقتضى مما يلزم التذکير به حتى يکون المسلم على بينة منه. ولذلک انبرت أقلام العلماء والباحثين إلى إشباع موضوع "الاعتدال فى التدين" بحثا ودراسة، لما يحقق ذلک من توجيه المسلم وتصحيح مساره التعبدى، خاصة فى زماننا هذا حيث أخذ الغلو فى التدين مأخذه بين المسلمين، وبات ينتشر فى أوساطهم وبالأخص بين شبابهم، وأضحت الأفکار المتزمتة والأراء المضللة بضاعة يروجها فى العالم الإسلامى دعاة من بنيننا إما عن سذاجة أو جهل أو تقليد، أو لحاجة فى نفوسهم.
وقد زاد من خطورة الوضع ما يعرفه العالم الإسلامى من خلافات مذهبية وصراعات إيديولوجية ونزاعات سياسية، هيأت الأجواء لدعاة التشدد والغلو، وأوجدت لهم موقع قدم فى الساحة الإسلامية. کما أن وسائل الإعلام وشبکات الاتصال المتطورة بمختلف أشکالها ساعدت على نشر الأفکار المتطرفة وإسماع صوت أصحابها، ناهيکم عن الأيادى الخفية من خارج العالم الإسلامى، التى تسعى إلى بث بذور الشقاق وخلق أسباب الخلاف بين المسلمين، حسدا من عند أنفسهم. کل هذا ألبس على کثير من عامة المسلمين دينهم، وأوقعهم فى حيرة من أمرهم، إذ ما السبيل إلى حسن العبادة والنجاة من التشدد والغلو. إنه ليس هناک من سبيل سوى التزام الاعتدال فى التدين، فهو الذى بنيت عليه شريعة الإسلامية ودلت عليه نصوص الکتاب والسنة.
فالمسلم إذن مطالب بأن يتحرى فى تدينه دائرة الاعتدال ويحتاط من أن تزل قدمه خارجها فيسقط فى مهاوى التشدد والغلو. ومن ثم کان موضوع الاعتدال فى التدين مما ينبغى التذکير به ـ فالذکرى تنفع المؤمنين ـ ومما يلزم التنبيه إليه، حتى يستوعبه المسلمون جيدا، فيلتزموا به التزاما، ويتحصنوا به من رياح الغلو العاتية التى تهب على العالم الإسلامى من هنا وهناک.
وهذا ما دعى الباحث إلى تناول هذا الموضوع، للمساهمة فى التذکير به، وذلک من خلال بيان مفهوم الاعتدال فى التدين ثم تحديد نطاقه، مخصصا وفد تم  تناول  ذلک من خلال محورين کل له مبحثا مستقلا. کما تم اضافة مبحثا ثالثا، له صلة بالموضوع، يتناول الدعوة إلى الله تعالى، وکيف يلزم أن تکون مؤسسة على الاعتدال.
 

الكلمات الرئيسية